كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن العربي: الآية وردت بقسمين: لَغْو ومنعقدة، وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تعلق عليه كفّارة.
قلت: خرّج البخاريّ عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغَمُوس» قلت وما اليمين الغَمُوس؟ قال: «التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب».
وخرّج مسلم عن أبي أُمامة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحَرَّم عليه الجنة» فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وإنْ كان قضِيبًا من أراكٍ» ومن حديث عبد الله بن مسعود؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمينٍ صبرٍ يقتطعُ بها مالَ امرىء مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية ولم يذكر كفّارة، فلو أوجبنا عليه كفّارة لسقط جرمه، ولقي الله وهو عنه راض، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه؛ وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله تعالى، والتهاون بها وتعظيم الدنيا؟ فأهان ما عَظَّمه الله، وعظّم ما حقّره الله وحسبك.
ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغَمُوس غَمُوسًا لأنها تغمس صاحبها في النار.
السادسة الحالف بألاّ يفعلَ على بِرٍّ ما لم يفعل، فإن فعل حَنِث ولزمته الكفّارة لوجود المخالفة منه؛ وكذلك إذا قال إن فعلت.
وإذا حلف بأن ليفعلنّ فإنه في الحال على حِنْثٍ لوجود المخالفة، فإن فعل برَّ، وكذلك إن قال إن لم أفعل.
السابعة قول الحالِف: لأفعلنّ؛ وإن لم أفعل، بمنزلة الأمر.
وقوله: لا أفعل، وإن فعلت، بمنزلة النهي.
ففي الأوّل لا يَبَرُّ حتى يفعل جميع المحلوف عليه: مثاله لآكلنّ هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبرّ حتى يأكل جميعه: لأن كل جزء منه محلوف عليه.
فإن قال: والله لآكلنّ مطلقًا فإنه يَبَرّ بأقل جزء مما يقع عليه الاسم؛ لإدخال ماهية الأكل في الوجود.
وأما في النهي فإنه يَحنَث بأقل ما ينطلق عليه الاسم؛ لأن مقتضاه ألاّ يدخلَ فرد من أفراد المنهيّ عنه في الوجود؛ فإن حلف ألاّ يدخلَ دارًا فأدخل إحدى رجليه حَنث؛ والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غَلَّظ جهة التحريم بأوّل الاسم في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]؛ فمن عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه، ولم يكتف في جهة التحليل بأوّل الاسم فقال: «لا حتّى تَذوقي عُسَيْلتَه».
الثامنة المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرحمن والرحيم والسميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته؛ لأنها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات.
روى الترمذيّ والنَّسائي وغيرهما: أن جبريل عليه السلام لما نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال: وعِزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، وكذلك قال في النار: وعِزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها.
وخرّجا أيضًا وغيرهما عن ابن عمر قال: كانت يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا ومقلبِ القلوب» وفي رواية «لا ومصرِّف القلوب» وأجمع أهل العلم على أن من حلف فقال: واللَّهِ أو باللَّهِ أو تاللَّهِ فحنِث أنّ عليه الكفّارة.
قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون: من حلف باسم من أسماء الله وحنِث فعليه الكفّارة؛ وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافًا.
قلت: قد نَقَل «في باب ذكر الحَلِف بالقرآن»؛ وقال يعقوب: من حلف بالرحمن فحنِث فلا كفارة عليه.
قلت: والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه.
التاسعة واختلفوا في وحقِّ الله وعظمةِ الله وقدرةِ الله وعلم الله ولعَمْرُ الله وايم الله؛ فقال مالك: كلها أيمان تجب فيها الكفّارة.
وقال الشافعيّ: في وحقِّ الله وجلالِ الله وعظمةِ الله وقدرة الله، يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يُرِد اليمين فليست بيمين؛ لأنه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية.
وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولَعَمْر اللَّهِ وايم اللَّهِ إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين.
وقال أصحاب الرأي إذا قال: وعظمةِ الله وعِزة اللَّهِ وجلال اللَّهِ وكبرياء الله وأمانة الله فحنِث فعليه الكفّارة.
وقال الحسن في وحق الله: ليست بيمين ولا كفّارة فيها؛ وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرّازيّ.
وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين.
وقال بعض أصحابه: هي يمين.
وقال الطحاويّ: ليست بيمين، وكذا إذا قال: وعِلم الله لم يكن يمينًا في قول أبي حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال: يكون يمينًا.
قال ابن العربي: والذي أوقعه في ذلك أن العِلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحدَث فلا يكون يمينًا.
وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدور، فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم.
قال ابن المنذر: وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وايم اللَّهِ أنْ كان لخليقًا للإمارة» في قصة زيد وابنه أُسَامة.
وكان ابن عباس يقول: وايم اللَّهِ؛ وكذلك قال ابن عمر.
وقال إسحاق: إذا أراد بايم اللَّه يمينًا كانت يمينًا بالإرادة وعَقْد القلب.
العاشرة واختلفوا في الحِلف بالقرآن؛ فقال ابن مسعود: عليه بكل آية يمين؛ وبه قال الحسن البصريّ وابن المبارك.
وقال أحمد: ما أعلم شيئًا يدفعه.
وقال أبو عبيد: يكون يمينًا واحدة.
وقال أبو حنيفة: لا كفّارة عليه.
وكان قَتَادة: يحلف بالمصحف.
وقال أحمد وإسحاق لا نكره ذلك.
الحادية عشرة لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته.
وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه؛ لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلاّ به فتلزمه الكفّارة كما لو حلف بالله.
وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في رَكْب وعُمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليِصمت» وهذا حَصْر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا.
ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنّسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» ثم ينتقض عليه بمن قال: وآدم وإبراهيم فإنه لا كفّارة عليه، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به.
الثانية عشرة روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هُريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف منكم فقال في حلفِه باللاّت فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالَ أقامرك فليتصدق» وخرّج النسائيّ عن مُصعَب بن سعد عن أبيه قال: كنّا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعُزّى، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت: وفي رواية قلت هُجْرا؛ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثًا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد» قال العلماء: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة، وتذكيرا من الغَفْلة، وإتماما للنعمة.
وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها، وكذا من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات؛ لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل.
الثالثة عشرة قال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أَكفر بالله: إنها يمين تلزم فيها الكفّارة، ولا تلزم فيما إذا قال: واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الإيمان.
ومتمسكه ما رواه الدَّرَاقُطْني عن أبي رافع: أن مولاته أَرادت أن تُفرّق بينه وبين امرأته فقالت: هي يومًا يهودية، ويومًا نصرانية، وكل مملوك لها حُرّ؛ وكل مال لها في سبيل الله، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تُفرّق بينهما، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تُكفِّر عن يمينها وتخلي بينهما.
وخرج أيضًا عنه قال: قالت مولاتي لأفرقنّ بينك وبين امرأتك، وكلّ مال لها في رِتاج الكعبة وهي يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك؛ قال: فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت: إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي؛ فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها: أن هذا لا يحل لك؛ قال: فرجعت إليها؛ قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال: هاهنا هاروت وماروت؛ فقالت: إني جعلت كل مال لي في رِتاج الكعبة.
قال: فممّ تأكلين؟ قالت: وقلت أنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية؛ فقال: إن تَهودتِ قُتلت وإن تَنصرتِ قُتلتِ وإن تَمجستِ قُتلتِ؛ قالت: فما تأمرني؟ قال: تُكفّري عن يمينك، وتجمعين بين فتاك وفتاتك.
وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال: أقسم بالله أنها يمين.
واختلفوا إذا قال أقسم أو أشهد ليكونّن كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيمانًا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانًا تُكفَّر.
وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنَّخَعي: هي أيمان في الموضعين.
وقال الشافعي: لا تكون أيمانًا حتى يذكر اسم الله تعالى؛ هذه رواية المُزَني عنه.
وروى عنه الربيع مثل قول مالك.
الرابعة عشرة إذا قال: أقسمت عليك لتفعلنّ؛ فإن أراد سؤاله فلا كفّارة فيه وليست بيمين؛ وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفًا.
الخامسة عشرة من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته لا شيء عليه؛ لأنها أيمان غير جائزة، وحَلف بغير الله تعالى.
السادسة عشرة إذا انعقدت اليمين حلّتها الكفارة أو الاستثناء.
وقال ابن الماجِشُون: الإستثناء بدل عن الكفارة وليس حَلًا لليمين.
قال ابن القاسم: هي حَلٌّ لليمين؛ وقال ابن العربي: وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح؛ وشرطه أن يكون متصلًا منطوقًا به لفظًا؛ لما رواه النَّسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حِنْث» فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه.
وقال محمد بن الموّاز: يكون الاستثناء مقترنًا باليمين اعتقادًا ولو بآخر حرف؛ قال: فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك؛ لأن اليمين فرغت عارية من الاستثناء، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي؛ وهذا يرده الحديث: «من حلف فاستثنى» والفاء، للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم.